الثلاثاء، 5 يوليو 2011

يوم جمعة آخر



- يا الله ما أجمل هذه الرائحة الصباحية، إنه فنجان القهوة تركته والدتي بقرب السرير، إنها عادتها الصباحية، أمي ليست كباقي الأمهات فهي لا توقظني بالصراخ او النكز ولكنها تعرف أثر عبق القهوة المنشط علي.

- أرجو ان لا اسمع كلمة توبيخ من والدي، ولكن بصراحة فنجان القهوة لا يحلو الا وسيجارة معه، ترى هل سيكون فطورنا اليوم ككل يوم جمعة من مشتقات الفول والحمص والطحينة، سأخرج للصالة بعد انتهاء هذه السيجارة الطويلة وما تبقى في فنجاني.

- صباح الخير يا أبي، تبدو اليوم اجمل وعلامات الشباب ترسم على وجهك ابتسامة رائعة، قلي السر يا أبي ماذا تفعل؟ لأبيعه في السوق وأصبح مليونيرا.

- الأب يضحك ويقهقه: ماذا تريد؟ أخبرني ولا تتخذ مثل هذه المقدمات والمداخل،قل لي؟

- الأم وهي في المطبخ وتركيزها يتجه للحديث الدائر بين الأب وأبنها: إنه نفس الحديث، إنه نفس الموضوع، افعل شيء لأبنك المجنون هذا، ماذا تنتظر؟ أتنتظر أن تقع المصيبة وتقول يا ليت.

- أمي أرجوك، كفي عن معاملتي كطفل معتوه، ماذا أطلب؟ كل ما أطلبه هو مرافقة ابن عمي، هل ابن عمي أشجع مني او أفضل مني، او حتى ابناء جيراننا جميعا.

- يا ولدي لا تتحامل على أمك، فأنت لا تعلم خوف الام على ابنها، ومن ثم ......

- ابي الموضوع لا يحتمل النقاش، لقد وعدتني قبلا بانك ستسمح لي بعد انتهاء امتحان الشهادة الثانوية وها قد انتهى الامتحان، والآن اطلب لك السماح لي، أرجوك اعطني الفرصة.

- الام ودموعها أثرت على صوتها: توقف ارجوك لا تتحدث اكثر، لا أريدك ان تعود كابن جارنا في البناء المجاور من اسبوعين، أرجوك أرجوك.

- يا ولدي، امك وانا بصراحة خائفين عليك، وانت بصراحة ما زلت صغير والشارع خطر جدا في أيام الجمع، اسمع كلمة امك وابقى بالبيت، فأنا رأيي من رأيها.

- انتما والداي ولكن انا انسان كامل وواعي، ان اريد الحرية في البيت وفي الشارع، اريدها هنا وهناك، ابي ارجوك احترم رأيي، امي ارجوك احترمي رأيي، انا اريد ان اذهب اليوم الى مسجد الحي واكون مع اصدقائي وجيراني، اريد ان اهتف للحرية، وحريتي تبدأ من هنا من البيت، فاسمحا لي، حريتي تبدأ هنا، وقد رضخت لأوامركم ببقاء في البيت وعدم الخروج بسبب الامتحانات ولانك انت يا أبي وعدتني بسماح لي بعدها.

- يا ولدي اسمع لي جيدا، انا اريد الحرية كما تريدها للوطن وللناس، ولكن ما يحدث مخيف، فاما القتل قنصا او الاعتقال والتعذيب، او .... (بدموع تنهرم من عيني الاب) اختفاء طويل قد لا يتنهي.

- دموع الام اصبحت أغزر واخذت تولول بكلمات وعبارات وتوسلات: اسمع كلامي ومشورتي يا ولدي، ارجوك ورضي الله عليك في الدنيا والآخرة.

خمس دقائق من الصمت ....

- ماذا قلت يا أبي، ما ردك؟

خمس دقائق أخرى من الصمت ....

- يا أبي أتسمعني؟ قل لي.

خمس دقائق من الصمت ولكن هذه المرة مع ارتفاع صوت بكاء الام وتوسلاتها: أرجوك لاتسمح له.

- إذا سمحت لك امك بالذهاب فأذهب، والا فانا غير موافق وهذا القرار نهائي بالنسبة لي.

- الله يمد في عمرك وانت فوق رؤوسنا ....

- "في صمت" إنها اول مرة ارى فيها امي تقبل ابي امامي، صحيح ان هذه القبلة على الخد ولكن ايقبلان بعضهما دائما، دعك الآن من حديث القبل، ماذا سأفعل؟ أعتقد ان علي أن اذهب في غفلة منهما، فأنا عمري 18 سنة، في بلاد الغرب استطيع ان أشاهد كل البرامج التي كتب عليها +12، ولكن لا أستطيع هنا الخروج من البيت الا بقرار جمهوري،  آه حتى في البيت قرقوش موجود.

- اسمع يا ولدي .... (الدموع تخنق الام من جديد) انت ولدي الأكبر الوحيد، لا يمر يوم الا واحلم بك وقد تخرجت من الجامعة وانني اخترت لك اجمل نساء الارض زوجة وارى نفسي الاعب اطفالك الصغار اتخيلهم هم ربما 3 واحيانا ازيدهم، انت يا ولدي بهجتي في هذه الحياة، وانا أتوسل إليك سامحني، ولكن لن اسمح لك بالذهاب.

- "في صمت" يا امي احبك ولكن لماذا تقحمين نفسك في أحلامي لتفصليها على مزاجك حتى عدد الاولاد يا إلهي، آه يجب أن اطلب الحرية هنا في البيت واحصل عليها قبل ان انزل للشارع.

- لماذا انت ساكن؟ بماذا تفكر؟ أجب امك وقل لها: أمرك يا أمي!

- "في صمت" هل أنا في معتقل؟ لن أقول شيء، لقد وعدني وهاهو الآن يختبئ خلف زوجته.

- تكلم يا ولد، قلها واطلب أيضا رضى والدتك! لا تجعلني افقد صوابي، قلها يا ولد!

- اتركه، من المؤكد انه فهم علينا وسكوته هو علامة على قبوله بكلامنا.

- يا ولد، انطق بكلمة ماذا حل بلسانك؟ تكلم.

- بالله عليك لا تضغط عليه، ان اتفهمه واصفح عنه، ولا أريد منه اي كلمة، أعلم انه سيكون صالحا ويفعل ما طلبناه منه.

- آه آه والله تعبت، هل الفطور جاهز؟ ام علينا الانتظار قليلا.

- "في صمت" دائما اهرب بصمتك يا أبي.

الجميع يتناول الافطار، ولا أحد ينظر الى الآخر....

- أبي

- الكلام على الطعام ليس من آدابه، صه.

- دع الولد يتكلم، ماذا تريد يا عمري؟

- أريد أن أذهب اليوم الى مسجد الحي، واخرج في المظاهرة مع اصدقائي وشباب الحي، سأذهب ولو إضطررت للقفز من شرفة المنزل، هذا نهائي.

- عدنا الى نفس الموال، ماذا كنا نتحدث قبل قليل؟

- انا خائفة عليك يا ولدي، ولا أريد ان تذهب وابوك وانا متفقين على هذا، وأيضا هذا القرار نهائي.

ربع ساعة من الصمت .... وكل واحد منهم يريد الاخر أن يبدأ الحديث ليرد عليه .... توقفوا عن الطعام وكأنهم شبعوا ....

- أنا سأدخل الى غرفتي.

- لم تكمل صحنك يا ولدي.

- أتركيه ويكفي دلال.

بعد ساعتين ....
بعد ثلاث ....
بعد أربع ....

صوت اطلاق رصاص كثيف ....

الباب يقرع بقوة ...

- جارنا الحبيب، نبارك لك بشهادة ولدك البطل برصاص الغدر.

أصوات بكاء وآهات، ضوضاء ... زغرودة طويلة مشحونة بالفاجعة والآلم ... زغاريد تملأ الحي ...

اليوم التالي ....

- رحمك الله يا ولدي لقد سامحتك لعدم سماعك كلامي، الله يرضى عليك دنيا وآخرة، يا اب البطل سامحه من أجلي، سامحه لانه لم يسمع كلمتي، اغفر له فهو وحيدي.

- يا ام البطل، انا لست غاضبا، انا حزين، لا اعتقد انها  الفرحة والفخر في قلبي، لان ابني تحدى الخوف الذي عشت به اكثر من 40 عاما وأثبت رجولته وانطلق الى حريته ونالها، الله يرضى عليه ويسكنه جناته.

دموع وعبارات وآهات، واقفان كانهما جسد واحد ...

هناك 3 تعليقات:

  1. راائع ومعبر ,,
    هي قصة كل أسرة لم يخرج صوت الحرية فيها بعد ،
    ولد حر أو أب حر أو أخ حر يتطلع لان تصدح حنجرته بصوت الحق والكرامة، وفي نهاية ذلك اليوم إما أن يعود أو يزف عريساً جديداً قرباناً للوطن ..

    أمتعتني كلماتك ,,
    بورك فيك وبقلمك النيِر

    ردحذف
  2. والله مشكلة وعبنعانيها دائما مع الاهل , الله يمضي هالامور على خير وسلامة . وننتهي من هالقصة ونحاسب شبيحة الاسد .
    اشكرك جزيل الشكر على هذه القصة الرائعة

    ردحذف
  3. الله يحميكون ويخليكون للاهل ويحفظلكون الاهل.

    ردحذف